المادة    
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه، أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: نحمد الله تبارك وتعالى ونشكره على ما أنعم وتفضل به علينا من مجالس الذكر والعبادة والإنابة.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منكم ومنا جميعاً، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب.
تحدثنا في الدرس الماضي عن الوصية الأولى من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الطهور شطر الإيمان}.
واليوم سنتحدث عن الوصية الثانية وهي حديث عظيم من كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أعظم وصايا هذا الرسول! وكيف لا، وهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؟! الذي أخرجنا الله تبارك وتعالى به من الظلمات إلى النور فما أجدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نتأمل وأن نتدبر كلامه ومواعظه ووصاياه!
  1. نص الحديث

    وهذا الحديث الذي هو الوصية الثانية، قال عنه بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش'' فالله أكبر!
    القلوب التي تتدبر وتتفكر وآتاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوة الفهم والمعرفة واليقين لا تحتمل بعض الأحاديث أو بعض الآيات، بل تكاد تطيش.
    وهذا الحديث هو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته المشهورة، للغلام النبيه النجيب الذكي، الذي نوَّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قلبه بالإيمان، وجعله حبر الأمة وترجمان القرآن. عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وعن أبيه عندما أوصاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}، وفي رواية أخرى: { تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً }.
  2. السلف الصالح والتفكر

    وتحت كل جملة من هذه الجملة عبر ومعانٍ عظيمة لا نستطيع أن نأتي عليها، وإنما نشير بما فتح الله تبارك وتعالى به علينا، حاثين أنفسنا وإخواننا جميعاً على تدبر كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سيما هذه الوصايا الجامعة المانعة.
    ولا نتعجب من قول ذلك العالم في هذا الحديث، فقد قرأت منذ أمد ليس بالطويل أن الإمام العابد الزاهد أبا سليمان الداراني -رحمه الله تعالى- نادى غلامه أحمد بن أبي الحواري فقال له: ائتني بماء، فجاءه بماء ليتوضأ لقيام الليل، يقول أحمد بن أبي الحواري :[[فلما أذن الفجر، أذن وهو على حاله، ويده في الإناء ولم يرفعها ولم يتوضأ! فقلت له: الصلاة رحمك الله! أذن الفجر]] أي أنه طوال كل هذه الليلة كان يتفكر في حاله مع الله عز وجل، تفكر فنسي واستغرق ولم يفعل شيئاً، وهذا التفكر هو عبادة.
    أقول: لا نستغرب أن من تدَّبر وتفكَّر وأمعن النظر قد يحدث له شيء من هذا، فمثلاً: عندما تأملت هذا الكلام وتعجبت منه تذكرت أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذكر قصته مع ابن عبد ياليل وما جرى له من الأذى، فقال: {انطلقت هائماً على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب!}.
    وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوى الناس زماماً، وأثبتهم نفساً، لكن الهمّ الذي ركبه واستغراق التفكير جعله يمضي وينطلق ولا يفيق إلا وهو في قرن الثعالب، واستغراق التفكير في المشي والسير أعظم منه والإنسان جالس.
  3. ثمرات التفكر

    أقول هذا لأنبه الإخوة لعظم التفكر في آية، أو في حديث، أو في عبرة، أو في حكمة؛ فهذا التفكر ثمرته عظيمة جداً؛ لأنه يورث لك علماً عظيماً جداً؛ بحيث إنك كلما قرأت، أو تعلمت، أو رأيت أيَّة عبرة وأخذتها بهذا العمق بالتفكير والتدبر والتأمل، فإنها تفيدك كثيراً جداً، وما ميَّز الله تبارك وتعالى أهل التقى السابقين -وعلى رأسهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم- بكثرة الرواية، ولا بكثرة المسائل في العلم، ولكن بهذا العمق في الفهم واليقين والتدبر.
    إن عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يكونوا يحفظون كتاب الله، وإنما حفظه نفرٌ معدودون منهم، والحديث كذلك لم يكن يجمعه أو يجمع أكثره والآلاف منه إلا نفر معدودون، لكن كان اليقين يقر ويثبت في قلوبهم بآية واحدة أو بحديث واحد.
    فهذا اليقين يستغرق قلبه، ويفتح الله تبارك وتعالى به عليه معارِفِ عظيمة، فيلج على قلبه من الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية ما يجعله ينسى كل شيء في هذه الدنيا، فحكمة واحدة يأخذها ردة واحدة يردها إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى هذا النعيم الصافي العذب، تروي قلبه، وتنبت فيه شجرة الحكمة، فيجني ثمارها هو ومن بعده.
    لذلك انظروا إلى كلامهم! ورحم الله الحافظ ابن رجب حيثن كتب كتاب "فضل علم السلف" فقال: ''الكلمة الواحدة من كلام السلف تزن مجلدات من كتب الخلف'' وما أكثرها الآن في المكتبات! وما أكثر المحاضرات والكلمات، لكن أين كلامنا وأين علمنا وأين خطبنا ومحاضراتنا من كلمة واحدة من كلام السلف؟! فالسلف رحمهم الله أخذوا هذا الدين عن إيمان ويقين.